البيروني.. عالم حتى النفَس الأخير
كان البيروني عالمًا فذا، متعدد الجوانب، غزير الإنتاج، عظيم الموهبة عميق الفكر، فهو مؤرخ محقق وجغرافي مدقق، وفلكي نابه، ورياضي أصيل، وفيزيائي راسخ، ومترجم متمكن، بلغ من إعجاب الأوروبيين به أن قال عنه المستشرق سخاو: "إن البيروني أكبر عقلية في التاريخ"، ويصفه آخر بقوله: "من المستحيل أن يكتمل أي بحث في التاريخ أو الجغرافيا دون الإشادة بأعمال هذا العالم المبدع".
وبلغ من تقدير الهيئات العلمية لجهود البيروني أن أصدرت أكاديمية العلوم السوفيتية في سنة (1370هـ= 1950م) مجلدًا تذكاريًا عنه بمناسبة مرور ألف سنة على مولده، وكذلك فعلت الهند. وأنشأت جمهورية أوزبكستان جامعة باسم البيروني في طشقند؛ تقديرًا لمآثره العلمية، وأقيم له في المتحف الجيولوجي بجامعة موسكو تمثال يخلد ذكراه، باعتباره أحد عمالقة علماء الجيولوجيا في العالم على مر العصور، وأطلق اسمه على بعض معالم القمر.
استقبال الحياة
استقبلت إحدى قرى مدينة "كاث" عاصمة خوارزم مولودًا ميمونًا هو أبو الريحان محمد بن أحمد الخوارزمي المعروف بالبيروني في (2 من ذي الحجة 362هـ= 4 من سبتمبر 973م)، والبيرون كلمة فارسية الأصل تعني "ظاهر" أو خارج. ويفسر السمعاني في كتابه "الأنساب" سبب تسمية أبي الريحان بهذه النسبة بقوله: "ومن المحتمل أن تكون عائلة أبي الريحان من المشتغلين بالتجارة خارج المدينة، حيث بعض التجار كانوا يعيشون خارج أسوار المدينة للتخلص من مكوس دخول البضائع إلى داخل مدينة كاث".
ولا تُعرف تفاصيل كثيرة عن حياة البيروني في طفولته، وإن كان لا يختلف في نشأته عن كثير من أطفال المسلمين، حيث يُدفعون إلى من يعلمهم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ودراسة شيء من الفقه والحديث وهو ما تستقيم به حياتهم. ويبدو أنه مال منذ وقت مبكر إلى دراسة الرياضيات والفلك والجغرافيا، وشغف بتعلم اللغات، فكان يتقن الفارسية والعربية، والسريانية، واليونانية، وتلقى العلم على يد أبي نصر منصور بن علي بن عراق، أحد أمراء أسرة بني عراق الحاكمة لخوارزم، وكان عالمًا مشهورًا في الرياضيات والفلك.
في طلب العلم
أجبرت الاضطرابات والقلاقل التي نشبت في خوارزم البيروني على مغادرتها إلى "الري" سنة (384هـ= 994م)، وفي أثناء إقامته بها التقى بالعالم الفلكي "الخوجندي" المتوفى سنة (390هـ= 1000م) وأجرى معه بعض الأرصاد والبحوث، ثم عاد إلى بلاده وواصل عمله في إجراء الأرصاد، ثم لم يلبث أن شد الرحال إلى "جُرجان" سنة (388هـ= 998م) والتحق ببلاط السلطان قابوس بن وشمكير، الملقب بشمس المعالي، وكان محبًّا للعلم، يحفل بلاطه بجهابذة العلم وأساطين المعرفة، وتزخر مكتبته بنفائس الكتب، وهناك التقى مع "ابن سينا" وناظَرَه، واتصل بالطبيب الفلكي المشهور أبي سهل عيسي بن يحيى المسيحي، وتتلمذ على يديه، وشاركه في بحوثه.
وفي أثناء إقامته بكنف السلطان قابوس بن وشمكير أنجز أول مؤلفاته الكبرى "الآثار الباقية من القرون الخالية"، وهو كتاب في التاريخ العام يتناول التواريخ والتقويم التي كانت تستخدمها العرب قبل الإسلام واليهود والروم والهنود، ويبين تواريخ الملوك من عهد آدم حتى وقته، وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسية والعبرية والرومية والهندية، ويبين كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض.
وظل البيروني في جرجان محل تقدير وإجلال حتى أطاحت ثورة غاشمة ببلاط السلطان قابوس سنة (400 هـ= 1009م) فرجع إلى وطنه بعد غياب، واستقر في مدينة "جرجانية" التي أصبحت عاصمة للدولة الخوارزمية، والتحق بمجلس العلوم الذي أقامه أمير خوارزم مأمون بن مأمون. وكان يزامله في هذا المجمع العلمي الرئيس ابن سينا، والمؤرخ والفيلسوف ابن مسكويه.
عرف أمير خوارزم قدر البيروني فأحله منزلة عالية، واتخذه مستشارًا له، وأسكنه معه في قصره، وظل في معيته سبع سنوات، واصَلَ في أثنائها بحوثه في الفلك حتى استولى السلطان محمود الغزنوني على خوارزم وضمها إلى مُلكه، فانتقل إلى بلاطه، ورحل معه إلى بلاده سنة (407هـ= 1016م).
كان البيروني عالمًا فذا، متعدد الجوانب، غزير الإنتاج، عظيم الموهبة عميق الفكر، فهو مؤرخ محقق وجغرافي مدقق، وفلكي نابه، ورياضي أصيل، وفيزيائي راسخ، ومترجم متمكن، بلغ من إعجاب الأوروبيين به أن قال عنه المستشرق سخاو: "إن البيروني أكبر عقلية في التاريخ"، ويصفه آخر بقوله: "من المستحيل أن يكتمل أي بحث في التاريخ أو الجغرافيا دون الإشادة بأعمال هذا العالم المبدع".
وبلغ من تقدير الهيئات العلمية لجهود البيروني أن أصدرت أكاديمية العلوم السوفيتية في سنة (1370هـ= 1950م) مجلدًا تذكاريًا عنه بمناسبة مرور ألف سنة على مولده، وكذلك فعلت الهند. وأنشأت جمهورية أوزبكستان جامعة باسم البيروني في طشقند؛ تقديرًا لمآثره العلمية، وأقيم له في المتحف الجيولوجي بجامعة موسكو تمثال يخلد ذكراه، باعتباره أحد عمالقة علماء الجيولوجيا في العالم على مر العصور، وأطلق اسمه على بعض معالم القمر.
استقبال الحياة
استقبلت إحدى قرى مدينة "كاث" عاصمة خوارزم مولودًا ميمونًا هو أبو الريحان محمد بن أحمد الخوارزمي المعروف بالبيروني في (2 من ذي الحجة 362هـ= 4 من سبتمبر 973م)، والبيرون كلمة فارسية الأصل تعني "ظاهر" أو خارج. ويفسر السمعاني في كتابه "الأنساب" سبب تسمية أبي الريحان بهذه النسبة بقوله: "ومن المحتمل أن تكون عائلة أبي الريحان من المشتغلين بالتجارة خارج المدينة، حيث بعض التجار كانوا يعيشون خارج أسوار المدينة للتخلص من مكوس دخول البضائع إلى داخل مدينة كاث".
ولا تُعرف تفاصيل كثيرة عن حياة البيروني في طفولته، وإن كان لا يختلف في نشأته عن كثير من أطفال المسلمين، حيث يُدفعون إلى من يعلمهم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ودراسة شيء من الفقه والحديث وهو ما تستقيم به حياتهم. ويبدو أنه مال منذ وقت مبكر إلى دراسة الرياضيات والفلك والجغرافيا، وشغف بتعلم اللغات، فكان يتقن الفارسية والعربية، والسريانية، واليونانية، وتلقى العلم على يد أبي نصر منصور بن علي بن عراق، أحد أمراء أسرة بني عراق الحاكمة لخوارزم، وكان عالمًا مشهورًا في الرياضيات والفلك.
في طلب العلم
أجبرت الاضطرابات والقلاقل التي نشبت في خوارزم البيروني على مغادرتها إلى "الري" سنة (384هـ= 994م)، وفي أثناء إقامته بها التقى بالعالم الفلكي "الخوجندي" المتوفى سنة (390هـ= 1000م) وأجرى معه بعض الأرصاد والبحوث، ثم عاد إلى بلاده وواصل عمله في إجراء الأرصاد، ثم لم يلبث أن شد الرحال إلى "جُرجان" سنة (388هـ= 998م) والتحق ببلاط السلطان قابوس بن وشمكير، الملقب بشمس المعالي، وكان محبًّا للعلم، يحفل بلاطه بجهابذة العلم وأساطين المعرفة، وتزخر مكتبته بنفائس الكتب، وهناك التقى مع "ابن سينا" وناظَرَه، واتصل بالطبيب الفلكي المشهور أبي سهل عيسي بن يحيى المسيحي، وتتلمذ على يديه، وشاركه في بحوثه.
وفي أثناء إقامته بكنف السلطان قابوس بن وشمكير أنجز أول مؤلفاته الكبرى "الآثار الباقية من القرون الخالية"، وهو كتاب في التاريخ العام يتناول التواريخ والتقويم التي كانت تستخدمها العرب قبل الإسلام واليهود والروم والهنود، ويبين تواريخ الملوك من عهد آدم حتى وقته، وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسية والعبرية والرومية والهندية، ويبين كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض.
وظل البيروني في جرجان محل تقدير وإجلال حتى أطاحت ثورة غاشمة ببلاط السلطان قابوس سنة (400 هـ= 1009م) فرجع إلى وطنه بعد غياب، واستقر في مدينة "جرجانية" التي أصبحت عاصمة للدولة الخوارزمية، والتحق بمجلس العلوم الذي أقامه أمير خوارزم مأمون بن مأمون. وكان يزامله في هذا المجمع العلمي الرئيس ابن سينا، والمؤرخ والفيلسوف ابن مسكويه.
عرف أمير خوارزم قدر البيروني فأحله منزلة عالية، واتخذه مستشارًا له، وأسكنه معه في قصره، وظل في معيته سبع سنوات، واصَلَ في أثنائها بحوثه في الفلك حتى استولى السلطان محمود الغزنوني على خوارزم وضمها إلى مُلكه، فانتقل إلى بلاطه، ورحل معه إلى بلاده سنة (407هـ= 1016م).